تابعنا
الخطوة المرتقبة من المحكمة الجنائية الدولية أثارت مخاوف عديدة من الإسرائيليين الذين شرعوا في خطوات دبلوماسية تهدف إلى منع إصدار مذكرات اعتقال بحق المسؤولين في تل أبيب، وكذلك عبَّر البيت الأبيض عن رفضه أي خطوة من المحكمة ضد إسرائيل.

تصاعدت التسريبات خلال الفترة الماضية بشأن احتمالية إصدار الادعاء العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق عدد من قادة إسرائيل المسؤولين عن الانتهاكات المرتكَبة خلال الحرب الجارية على قطاع غزة.

وأشارت التقارير ذات الصلة إلى أن مذكرات الاعتقال ستشمل مسؤولين إسرائيليين بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فيما تكشف التفاصيل أن الإجراء المرتقب من المحكمة يرتبط بجرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان المرتكَبة خلال الحرب على غزة، وستشمل أيضاً عرقلة وصول المساعدات الإنسانية واستخدام سلاح التجويع بحق سكان القطاع.

الخطوة المرتقبة من المحكمة الجنائية الدولية أثارت مخاوف عديدة من الإسرائيليين الذين شرعوا في خطوات دبلوماسية تهدف إلى منع إصدار مذكرات اعتقال بحق المسؤولين في تل أبيب، وكذلك عبَّر البيت الأبيض عن رفضه أي خطوة من المحكمة ضد إسرائيل.

المحكمة الجنائية: الاختصاص والولاية القضائية

شهد عام 2002 ميلاد المحكمة الجنائية الدولية التي ستكلَّف بمحاكمة الأفراد على أشدّ الجرائم خطورة التي لطالما مثلّت موضع اهتمام المجتمع الدولي، وهي الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجريمة العدوان.

وخلال السنوات التي تلت فتح باب التوقيع على نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة عام 1998 فقد بلغ عدد الدول التي انضمت إلى الاتفاقية 124 دولة، بينها خمس دول عربية فقط هي: الأردن وجيبوتي وجزر القمر وتونس، بالإضافة إلى فلسطين، التي انضمت إلى المحكمة عام 2015، وقُبيل إيداعها صك انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساسي لدى الأمين العام للأمم المتحدة، أصدرت السلطة الفلسطينية إعلاناً بموجب المادة 12- 3 من نظام روما الأساسي، بقبول اختصاص المحكمة بأثر رجعي بدءاً من 13 يونيو/حزيران 2014، لتختص المحكمة بالنظر في الانتهاكات الإسرائيلية خلال الحرب على غزة في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب من ذلك العام.

كان عام 2021 مهماً على صعيد ولاية المحكمة الجنائية على الأراضي الفلسطينية، عندما قررت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة في 5 فبراير/شباط تأكيد الاختصاص الإقليمي للمحكمة على فلسطين وامتداده إلى الأراضي المحتلة منذ عام 1967 ليشمل الضفة الغربية والقدس إضافةً إلى قطاع غزة، وقد جاء هذا القرار استجابةً لطلب المدعية العامة لإصدار قرار قضائي بشأن نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين.

وأكدت المحكمة في حيثيات قرارها أنها لا تفصل في نزاع حدودي بموجب القانون الدولي، ولا تحكم بشكل مسبق في مسألة أي حدود مستقبلية، وإنما الغرض من القرار يرتبط بتحديد نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة، إذ مهّد القرار لمكتب المدعي العام البدء في تحقيق رسمي بشأن الجرائم الإسرائيلية المرتكَبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة بموجب نظام روما الأساسي.

انتهاكات إسرائيل في غزة.. وفقاً لنظام روما

حظي قرار محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني الماضي بشأن التدابير الاحترازية، في الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل بأهمية كبيرة، ليس من جهة الأوامر التي أقرّتها المحكمة فحسب، بل في إبداء المحكمة قناعة بأن إسرائيل انتهكت بالفعل التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

وبينما لم تشر التقارير إلى استناد المحكمة الجنائية في إجرائها المرتقب ضدّ قادة إسرائيليين إلى ارتكابهم جرائم تدخل ضمن نطاق الإبادة الجماعية، فإن ما يرشَّح حالياً يرتبط بانتهاكات تتعلق بخرق قواعد قانون الحرب والتزامات إسرائيل أحكام القانون الدولي الإنساني، من دون استبعاد أن تشمل تلك الخروقات جريمة الإبادة الجماعية.

تمتلك المحكمة الجنائية الدولية صلاحية النظر في سلسلة من الجرائم على النحو الذي ينص عليه نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة، إذ لا يوجد شك في أن أي تحقيق نزيه سيخلص إلى أن إسرائيل قد ارتكبت خلال الحرب على قطاع غزة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية إضافةً إلى جرائم الإبادة الجماعية.

وتشمل جرائم الحرب الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف مثل القتل العمد، والتدمير واسع النطاق للممتلكات الذي لا تبرره الضرورة العسكرية، والترحيل أو النقل غير القانوني، والحبس غير القانوني للأشخاص المحميين.

وبينما أظهرت عشرات التقارير ارتكاب إسرائيل معظم تلك الانتهاكات التي تندرج ضمن جرائم الحرب، فإن أحد أهم الادعاءات التي سيواجهها قادة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية هو استخدام التجويع سلاح حرب، الذي يدخل أيضاً ضمن جرائم الحرب.

ومنذ الأيام الأولى للعدوان على غزة عمدت إسرائيل إلى تقييد إمدادات الغذاء والمياه والمرافق الأساسية إلى القطاع، ومن أجل إحكام عملية التجويع عرقلت دخول المساعدات الإنسانية إلى مناطق غزة، بما في ذلك منع شاحنات المساعدات وتقييد الوصول إلى الإمدادات الأساسية مثل المعدات الطبية والمواد الغذائية، وبموجب نظام روما الأساسي يعد توجيه الهجمات عمداً ضدّ الأفراد أو المنشآت أو المواد أو الوحدات أو المركبات المشاركة في مهمة المساعدة الإنسانية جريمة حرب.

وفيما يتعلق بالجرائم ضدّ الإنسانية فقد جرى تعريفها وفقاً لنظام روما الأساسي بأنها هجمات واسعة النطاق أو منهجية موجَّهة ضدّ أي مجموعة من السكان المدنيين، مع العلم بالهجوم، ويشمل أعمال القتل والإبادة والترحيل والتعذيب والاغتصاب والاضطهاد، إضافةً إلى الفصل العنصري، وكانت الهجمات المكثفة والوحشية التي شنتها إسرائيل ضد سكان غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 محل فحص من خبراء أمميين بوصفها جرائم ضدّ الإنسانية وفقاً لنظام روما.

كما تدخل جرائم الإبادة الجماعية ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، التي من المحتمل أن تصبح موضع فحص بشأن إمكانية ارتكابها في قطاع غزة، ويشير نظام روما الأساسي إلى أن تلك الإبادة الجماعية تشمل الأفعال المرتكَبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، ونظراً لخطورة تلك الجرائم وحساسيتها فإن عبء إثباتها يتطلب أيضاً إثبات وجود النية لارتكابها، وفي الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية، جرى توثيق عشرات الأدلة التي تشير إلى نية إسرائيلية متعمَّدة لارتكاب إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة.

على الرغم من أن نظام روما الأساسي يشير إلى أن استخدام التجويع سلاحاً يندرج ضمن جرائم الحرب، إلا أنه قد يندرج أيضاً ضمن سياسة إخضاع السكان لظروف معيشية بقصد إهلاكهم جزئياً أو كلياً، ما يحتمل معه دخول سياسة التجويع في إطار جرائم الإبادة الجماعية.

تشريعات أمريكية تعيق عمل المحكمة

خلال الفترة الماضية أشارت تقارير إلى سعي إسرائيلي وأمريكي لمنع المحكمة الجنائية الدولية من إصدار أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين وعلى رأسهم نتنياهو الذي طلب من الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال مكالمة هاتفية، "التدخل والمساعدة" في منع إصدار مذكرات الاعتقال.

بدورهم كثّف مسؤولون أمريكيون تهديداتهم للمحكمة الجنائية الدولية حال مضت قدماً في إصدار أوامر الاعتقال ضدّ مسؤولين إسرائيليين، وشملت هذه التهديدات مشروع قانون في الكونغرس يفرض عقوبات على المسؤولين في المحكمة المشاركين في التحقيقات.

ويعيد التهديد بتشريع أمريكي جديد قانوناً آخر صدر عام 2002 إلى الواجهة، عُرف باسم "قانون حماية الجنود الأمريكيين (ASPA)" أو قانون "غزو لاهاي"، ويمنح رئيس الولايات المتحدة صلاحية استخدام "جميع الوسائل الضرورية والمناسبة"، بما في ذلك القوة العسكرية، لإطلاق سراح الموظفين الأمريكيين أو حلفاء أمريكا المحتجزين أو المسجونين لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، كما يقيِّد القانون أيضاً المساعدات العسكرية الأمريكية للدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية ويحدّ من مشاركة واشنطن في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ما لم تُضمن الحصانة من الملاحقة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية.

وعلى الرغم من استدعاء القانون بوصفه أحد الخيارات الأمريكية حال أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، فإنه يبقى ضعيفاً احتمال توجه البيت الأبيض إلى استخدام القوة العسكرية بالفعل لإطلاق سراح مسؤولين إسرائيليين قد تعتقلهم المحكمة.

ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب، أبرزها صعوبة احتجاز أي مسؤول إسرائيلي وتسليمه للمحكمة الجنائية، وقد أظهرت السوابق المختلفة عدم استجابة دول أعضاء في نظام روما الأساسي لأوامر اعتقال بحق زعماء حلّوا ضيوفاً عليها، كما أن الحرب الروسية-الأوكرانية والدعم الأمريكي لعمل المحكمة التي أصدر ادعاؤها العام أمراً باعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سيضيف مزيداً من الضغوط على واشنطن التي ستبدو أكثر عرضة للانتقاد بسبب تناقضاتها المستمرة تجاه القانون الدولي.

كما أن حالة الانقسام التي يشهدها المجتمع الأمريكي وحراك طلاب الجامعات المندِّد بالحرب قد يجعل الإدارة الأمريكية تنأى عن اتخاذ خطوات أكثر فجاجة في دعم إسرائيل على النحو الذي تسمح به لنفسها بانتهاج سلوك عسكري موجَّه ضدّ عمل المحكمة الدولية.

غير أن الضغوط الأمريكية المتعلقة بتعليق المساعدات وكذلك المشاركة في بعثات حفظ السلام قد تبقى خيارات أكثر عقلانية ومنطقية وترجيحاً حال أصدرت المحكمة الجنائية بالفعل أوامر اعتقال بحق مسؤولين أمريكيين.

أوامر الاعتقال المحتمَلة.. إلى أين؟

من المؤكد أن صدور أوامر اعتقال ضدّ مسؤولين إسرائيليين ستؤدي إلى تداعيات عميقة على مسرح العدالة والسياسة والدوليين، إذ معظم دول العالم أمام اختبار قاسٍ وصعب يتعلق بالحفاظ على مصالحها أو تنفيذ التزاماتها القانونية والأخلاقية بموجب الاتفاقيات الدولية، لا سيّما نظام روما الأساسي.

وبعيداً عن حالة الجدل إزاء إمكانية تنفيذ أوامر الاعتقال حال صدورها، فإن إسرائيل على أي حال ستخرج خاسرةً من جديد على صعيد الرواية من جهة، وعلى صعيد علاقاتها السياسية والدبلوماسية من جهة أخرى.

لن يسع إسرائيل تكذيب أي اتهامات جديدة بشأن ارتكابها فظائع خلال عدوانها على غزة، كما سيراقب العالم كيف سيصبح نتنياهو ومسؤولون آخرون محاصرين عندما يُمنعون من دخول 124 دولة عضواً في نظام روما الأساسي كونهم بات مطلوباً القبض عليهم، وحتى إصدار القرار فإن إسرائيل وحلفاءها وكذلك المحكمة الجنائية أمام مفترق طرق صعب؛ إما وصم إسرائيل إلى الأبد، وإما نسف ما تبقى من رمزية لفكرة العدالة الدولية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي